نبؤة غجرية
ازداد الألم في جسد الشاب ، شعر بالعجز أسفل قدره ، شق عليه رؤية هزيمته بعينيه فأغمضهما ، لكنه رفض الأنكسار ، عاد يقاوم ، ظل يردد : كم أكرهني ..كم أكرهني .
***
أخذته الذاكرة على جناحها للماضي ، إلى البيت القديم ، حين كان في حضن أمه ، وسعلتْ فجأة دماء كثيرة ، انسكبت على وجهه لسوء حظه ، فترك والده الجريدة التي كان يقرأها ، وجرى إليها لنجدتها ، وألقى على الطفل نظرة قاتلة ، تتهمه بأشياء عديدة ، لم يفهمها في حينها ، لصغر عقله .
ربما كان يعلم ، ربما ذهب إلى عرافة من الغجر ، وربما كانت عمياء لكنها تستطيع رؤية الغيب ! ربما قالتْ له كل شئ ، ربما هزئ مما تقول ، ربما صدق ، لكن الأكيد أنه برئ من نبؤات العرافات ، ومن صدقهن إن صدقوا ، وربما كانت النبؤات انتقام الله من والده ، عقاب لأنه أراد أن يخترق حجاب الغيب السميك ، ويرى!
بعد أن قال لها : أحبكِ يا أمي .
ماتتْ الأم بعدها باسبوع ، وضعوها في تابوت احتوى جسدها ، لكن الجسد لم يظل على حاله ، التهمه الدود والظلام في القبر . وانتقل الظلام من القبر إلى صدر الطفل ، عندما رأى قسوة والده تكبر مع الأيام . حتى عندما سافرا إلى الإسكندرية ، ورغم أن البحر قد غسل روح الفتى ، إلا أن اللعنة ظلتْ قائمة ، والذكريات كانت تصعد بين الحين والآخر ، من قاع البحر أحيانًا ، ومن داخل حزن الفتى أحيانًا . حتى حكايات الجد التي كانت تقلل عتمة الظلمة ، بُهت قمرها عندما شُحب وجه الجد ، ومات ولكن الحكايات لم تمت معه .
"توتة توتة ..خلصة الحدوتة"
ويا ليتها قد انتهت . حاول أن يدعي الصلابة ، أن يصبح رجلاً أو صخرًا ، قاسي القلب . لكن أمواج البحار قادرة دومًا على تفتيت الصخور ، وإن لم نرَ ذلك رأي العين . فبعد أن انطفئ النور من عين الجد ، رحل عن البحر زرقته ، وأصبح أسود اللون ، لأن الكون أصبح ليلاً في عين الشاب .
"أنت لعنة أيها الشؤم"
يتذكر تلك المقولة التي يكررها والده دومًا ، لم يصدقها في البداية ، لم يصدقها أبدًا ، كان كلما سمعها ينكرها ويصدق عنها جنون والده . ومع كثرة تكرارها خاف منها ، أن يصدقها . كان يفكر لو صدقتْ ، فما ذنبه إن كانتْ تلك إرادة القدر ؟
فكر في الانتحار مرة أو مرتين ، كره الحياة وخاف منها ، حتى رأى تلك الفتاة ، ورأى قصائد شعر ملونة تحلق حولها ، وتتبع طيفها ، عادتْ الألوان مرة أخرى ، وأحب الفتاة ، وأحب الحياة . وعندما أحبها عاد للبحر زرقته ، وعندما أحبته أعادتْ له قوته من ضعفها ، جعلته يقدر على تحمل صرخات والده المجنون ، وسبابه الدائم .
يذكر عندما أعترف لها بعشقه ، حين كانا جالسين على شاطئ البحر ، فنظرت له بسعادة وتنهدت كأنها تقول : أخيرًا نطقتْ ، أحستْ بأنها تريد احتضانه ، لكنها خجلتْ رغم الشوق لذلك . شرعتْ ببناء بيت من رمل الشاطئ ، ففهم ، وابتسم ، وساعدها . وبعدها نظرا إلي البيت مليًا في سعادة ، ثم امسك بيديها ورحلا ، ورحلتْ الشمس في رحلة غروبها ، فآتت موجة عاتية واغرقتْ البيت وهدمت الحلم .
"كلما تحب أحدًا يموت"
كان يضحك دومًا كلما قال والده ذلك ، لكنه في المرة الأخيرة بكى ، بعدما وصل إليه خبر وفاة محبوبته . بدأ يصدق ، عندما تذكر ، حضن الأم ، وحواديت الجد ، وحلم العشق . علم سر حياته ، فقد فشل في حب نفسه . أخبره والده بأنه عليه أن يكره نفسه ، وقال: لو أحببتها لحفرت قبرك بيديك .
لم يُكذّب تلك المرة ، صدق على الفور ، وهل يحتمل الأمر احتمالات ؟ تمنى لو كان يحب والده ، لكنه كان يكرهه بشدة ، وكان يكرهه أكثر كلما قال الحقيقة .
***
ازداد الألم في جسد الشاب ، شعر بالعجز أسفل قدره ، شق عليه رؤية هزيمته بعينيه فأغمضهما ، لكنه رفض الأنكسار ، عاد يقاوم ، ظل يردد : كم أكرهني ..كم أكرهني .
عندما دخل اباه الغرفة ، مستندًا على الجدران ، بعدما ظل يناديه كثيرًا ، وماتت الإجابة ، فطن للخبر . تحسس جسده البارد ، نظر إليه بحزن وهو يتحسس ملامحه بيديه ، ثم ضحك بجنون ، وبكى بجنون ، صدقتْ النبؤة ، صدقتْ العرافات : سيموت الشؤم ذات يوم ، سيكره نفسه كرهًا شديدًا ، حبًا فيها ، فيموت