ساقية الصاوي من مقلب نفايات بالحي الراقي لمنارة إشعاع فكري
تجربة فريدة ومتناقضة، تجربة أحالت ركاماً وحاويات نفايات إلى نبع ينهل منه كل ظمآن، تجربة كانت فكرة في وجدان وزير مصري سابق، واستلمها نجله وأحالها واقعاً، واقع يقصده "العامة" في حي يوصف بأنه حي النخبة "البرجوازية" في مصر، والغريب أن هذه التجربة الفريدة لم تنجرف إلى تبعات العصبية الكروية التي وقعت بين الشقيقتين مصر والجزائر، بل كانت "راوية" صافية لكل "ظمآن" يريد أن يصقل ويدعم ثقافته، هذه هي "ساقية الصاوي"، أول مركز ثقافي أهلي شامل، يحترم ويقدر الإنسان دون النظر إلى اعتبارات طبقية، مادية كانت أو مجتمعية.
قبل سبعة أعوام، كانت المنطقة الواقعة أسفل كوبري 15 مايو بمنطقة الزمالك، والتي زارتها "العربية.نت"، كحال غالبية المناطق المهجورة التي يستخدمها السكان مأوى لنفاياتهم، كان المشهد وقتها يبعث على الكآبة، علب فارغة، أشياء مبعثرة، نفايات وقطط وفئران متصارعة، أكثر من 5000 متر مربع كان سكان الحي البرجوازي يتأذون منها، وفي أحسن الأحوال يستخدمونها مواقف لسياراتهم حين تئن الشوارع والطرقات، لكن الحال تحول إلى الاتجاه المعاكس.
الفكرة الحلم
عبدالمنعم الصاوي صاحب الفكرة
وعلى الرغم من أنه تولى وزارتي الثقافة والإعلام معاً في حكومة ممدوح سالم في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، إلا أن الأديب الراحل عبدالمنعم الصاوي (المولود في محافظة البحيرة بتاريخ 20 فبراير 1918، والمتوفى في 7 ديسمبر 1984) كان يحلم بإنشاء كيان ثقافي يستقطب جميع فئات الشعب، إلا أنه لم يشأ أن يكون هذا الكيان ذا صبغة حكومية، ولم يمهله القدر لتحقيق حلمه، الذي استلهمه نجله المهندس محمد الصاوي، ظل سنوات يفكر في هوية هذا المكان، كيف يتحقق الحلم بالهوية التي أرادها والده، هوية لا تميز بين قارئ وآخر، بين فنان وعامل، بين مصري وجزائري، وحينما تبلورت الفكرة في ذهنه سعى إلى البحث عن مكان يتسع لأفكاره ويتميز بقربه من شتى الأطياف، وحينما أجبرته إشارة مرور على الوقوف طويلاً أسفل كوبري 15 مايو بالزمالك، وشاهد المنطقة الفسيحة أسفل الكوبري المكدسة بالنفايات، أضاءت الفكرة في رأسه وبدأ التحدي.
التحرر من قيود الأفكار الحكومية
الفكرة الأساسية التي كانت تشغلني هي إنشاء مؤسسة ثقافية متحررة من قيود الأفكار والقواعد الحكومية، مؤسسة لا تتعامل بنظرة "فوقية"، بل تتعامل باحترام شديد مع جميع زوارها أياً كانت صفاتهم أو وظائفهم أو جنسياتهم"، بهذه العبارة بدأ المهندس محمد الصاوي حديثه، موضحاً أن اختياره للمكان أعطى دلالة رمزية على إمكانية البناء والنجاح من القاع وفوق الركام للوصول إلى كل المستويات، بل وإلى القمة.
ساعده على ذلك عمله كمهندس معماري يمتلك حساً فنياً متقداً، فلم يضيع وقتاً، وعرض الأمر على المسؤولين الذين رحَّبوا بالفكرة على الفور باعتبار أن المشروع سيريحهم من عبء التلوث الذي تسببه النفايات المتراكمة في المكان، وجعله مركزاً ثقافياً تنويرياً يكون بمثابة منبر للألوان الإبداعية والثقافية كافة.
وبالفعل صار الركام ومأوى القطط والفئران المتناحرة ساحة للفن والجمال، بدأ أولاً بإنشاء مركز ثقافي، ثم تمكّن من الحصول على قطعة أرض مجاورة للمركز، تطل على النيل، وألحقها به مدشناً بذلك "ساقية الصاوي".
وعن دلالة الاسم يوضح أنه اختار "الساقية" تكريماً لوالده، ويُقصد بها ساقية المياه، لتكون ساقية ثقافية فنية تروي قاصدها فكراً وثقافة.
الجميع سواسية
وعن أبرز ما يميز "الساقية" عن غيرها من المؤسسات والمنتديات الثقافية، يوضح أن ميزتها الأساسية أن القائمين عليها لا يتعاملون بنظرة فوقية مع روادها، بل الجميع سواسية أياً كانت هوياتهم، لذلك لم يكن غريباً أن يزورها يومياً أكثر من 2000 مواطن من عامة الشعب وخاصته.
كما يؤكد أن للساقية دوراً تنويرياً مهماً، حيث تعقد العديد من اللقاءات الدورية لمناقشة مختلف القضايا والموضوعات التي تتعرض للمشكلات التي تواجه المجتمع، وتسهم مع حاضري هذه اللقاءات في وضع حلول عملية لهذه المشكلات، في مناخ يكفل حرية التعبير وإبداء الرأي دون تجاوز ديني أو مجتمعي أو عرقي.
ويشير إلى أنها اعتمدت منذ إنشائها على احترام وجهات النظر المختلفة والانتقادات الموجَّهة ووضعها في الاعتبار، وإتاحة الفرصة لأصدقائها ومتطوعيها للمشاركة في مهام ثقافية وإنسانية حتى لو كانت بسيطة مثل تنظيم دخول الجمهور من البوابات وتشجيع المواهب الجديدة.
كما وضعت الساقية برنامجاً للأطفال أطلقت عليه "سيبوني أفكَّر"، لتنمية مَلَكة التفكير والتخيُّل لدى الطفل وتعليمه كيف يكون التفكير نشاطاً ترفيهياً، بالإضافة إلى حثه على ممارسة بعض الألعاب والتمارين العقلية.
قبلة للجميع
وأشار إلى ميزة أخرى في "الساقية" وهي أنها تتعامل مع جميع زائريها باحترام كامل أياً كانت هوياتهم أو جنسياتهم، مؤكداً أن أحداً لم يكن يلحظ أن العديد من الطلبة الجزائريين كانوا يقصدون الساقية للتزود من روافدها، لاسيما أنها قريبة من سفارة بلادهم، فكانوا جنباً إلى جنب مع إخوانهم المصريين والليبيين والعراقيين والعرب على اختلاف جنسياتهم.
وتقدم الساقية خدماتها للجمهور من الثامنة صباحاً حتى منتصف الليل في جميع أيام الأسبوع، فهي تقدم يومياً مجموعة من الأحداث الثقافية والفنية بحد أدنى حدثين، وأربعة أحداث بحد أقصى، ويبلغ متوسط زوار الساقية يومياً 1500 شخص، وفي كثير من الأيام يصلون إلى 2000 شخص يستمعون ويشاهدون ما تقدمه الساقية من عروض وندوات ومهرجانات تتجاوز 30 مهرجاناً ومسابقة على مدار العام. كما تنظم العديد من الحفلات الموسيقية والغنائية البعيدة عن الابتذال، منفتحة على مختلف الثقافات، شرقها وغربها، قاعها وقمتها.. لمعرفة ما يمتلكه الآخر من فنون وآداب.. وما يمكن تقديمه إليه.