الحركة الإسلامية، حركة ممتدة في الزمان والمكان، ، وهي حركة أمة لإنقاذ العالم من القهر والظلم والاستبداد، ومع ظهور الاستعمار الأوروبي في المنطقة وسقوط الخلافة الإسلامية وتفكك عري بلاد المسلمين، تمثلت الحركة الإسلامية في حركات الكفاح الشعبي الثوري والجهادي ضد الاستعمار، ومصطفى كامل أحد حلقات هذا الكفاح الشعبي ضد الاستعمار الإنجليزي في مصـر.
كانت حركة الكفاح الشعبي في مصر ضد الاستعمار الأوروبي قد بدأت من الأزهر ضد الحملة الفرنسية 1798 ـ 1801 م، وقاد عمر مكرم الشعب المجاهد ضد حملة فريزر 1807، ثم جاءت الثورة الإسلامية العرابية لمواجهة النفوذ الأجنبي في مصر واستبداد الأسرة الخديوية.
ومع فشل الثورة العرابية، واحتلال الإنجليز لمصر سنة 1882، حاولت سلطات الاحتلال الإنجليزي بالتعاون مع الخديوي والخونة اجتثاث جذور حركة الجهاد الشعبي في مصر والقضاء عليها، ونجحت تلك السلطات في القضاء على كثير من عناصر الثورة بالنفي أو السجن او القتل، ولكن عبد الله النديم استطاع أن يختفي سبع سنوات كاملة 1882 ـ 1889، وأن يحافظ على شعلة الثورة متقدة إلى أن سلمها إلى مصطفى كامل سنة 1889م من خلال اللقاء به عن طريق لطيف سليم باشا أحد قيادات الثورة التي أفلتت من سلطات الاحتلال – وفي بيت سليم باشا نقل عبد الله النديم دروس الثورة ومواعظها وخبراتها إلى مصطفى كامل، وعلي كل حال لم تلبث سلطات الاحتلال أن قامت بنفي عبد الله النديم إلى خارج مصر– ولكن جذوة الثورة ورايتها كانت قد انتقلت إلى يد مصطفى كامل.
كان مصطفى كامل يدرك أن الأجواء الشعبية الثورية في حالة جزر، وان روح اليأس تسيطر على كثير من النفوس في أعقاب فشل الثورة العرابية، وهكذا وضع مصطفى كامل أمام عينيه محاولة بث روح الأمل والثورة في النفوس – وبدأ مصطفى كامل يجوب أنحاء مصر ليخطب في التجمعات الشعبية بأسلوبه المؤثر يبعث في النفوس الأمل ويحث الجماهير على الكفاح.
إسلامية مصطفى كامل
حركة الكفاح الشعبي في مصر ضد الاحتلال الأجنبي حركة إسلامية قلبًا وقالبًا، مصطفى كامل امتداد طبيعي لعمر مكرم – النديم – والحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل هو حزب الجامعة الإسلامية.
يقول مصطفى كامل في مقدمة كتابه :” المسألة الشرقية “ الذي صدر سنة 1898م :” إني أضرع إلى الله فاطر السماوات والأرض من فؤاد مخلص وقلب صادق أن يهب الدولة العلية القوة الأبدية والنصر السرمدي – ليعيش المسلمون والعثمانيون مدى الدهر في سؤدد ورفعة وأن يحفظ للدولة العثمانية حامي حماها وللإسلام إمامه وناصره “ ويضيف مصطفى كامل :” اتفق الكتاب والسياسيين على أن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع القائم بين دول أوروبا وبين الدولة العلية العثمانية بشأن البلاد الواقعة تحت سلطانها وبعبارة أخري هي مسألة وجود الدولة العلية نفسها في أوروبا، وقال كتاب آخرون من الشرق ومن الغرب بأن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام؛ أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة القائمة بأمر الإسلام وبين دول المسيحية :( المسألة الشرقية ص5).
ويضيف مصطفى كامل :” إن العناصر التي أشعلت الفتن كالأرمن تستعملها بعض الدول كانجلترا فهي تثور بعوامل الدين وبدسائس دينية.
وقد ثبت ذلك جليا في المسألة الأرمينية وشوهد أن الأرمن الكاثوليك كانوا على سكينة تامة بينما كان البروتستانت يثورون ويدبرون المكائد ضد الحكومة العثمانية، فمسألة الدين في العلية العثمانية هي للآلة القوية التي يستعملها أصحاب الدسائس والغايات، وأولئك الذين يثورون بدسائس أعداء الدولة العثمانية إنما يثورون ضد أنفسهم ويقضون على حياتهم وسعادتهم بعبثهم وجنونهم وإتباعهم لأوامر أعداء الدولة المحركين لهم، فالذين ماتوا من الأرمن في الحوادث الأرمينية إنما ماتوا فريسة للدسائس الإنجليزية، والذين ماتوا في كريت ماتوا فريسة الدسائس الإنجليزية؛ بل الذين ماتوا من اليونانيين ماتوا فريسة الدسائس الإنجليزية ذاتها – المسألة الشرقية ص8، 9 .
ويقول مصطفى كامل في ضرورة المحافظة على سلامة الإمبراطورية العثمانية " ولكن الحقيقة هي أن بقاء الدولة العلية ضروري للجنس البشري، وأن في بقاء سلطاتها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق، وقد أحس الكثيرون من رجال السياسة و الإعلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام وأن زوالها لا قدر الله مجلبة للأخطار ومشعلة لنار يمتد لهيبها بالأرض شرقًا وغربًا، وشمالا وجنوبًا، وأن هدم هذه المملكة القائمة بأمر الإسلام يكون داعية لثورة عامة بين المسلمين وحرب دموية لا تعد بعدها الحروب الصليبية إلا معارك صبيانية، وأن الذين يدعون لخير النصرانية في الشرق يعلمون قبل كل إنسان أن تقسيم الدولة العلية أو حلها يكون الضربة القاضية على مسيحي الشرق عمومًا قبل مسلميه، فقد أجمع العقلاء البصيرون بعواقب الأمور على أن دولة آل عثمان لا تزول من الوجود إلا ودماء المسلمين تجري كالأنهار والبحار في كل واد ( المسألة الشرقية ص 13، 14) .
ويقول في سعي إنجلترا لهدم الخلافة العثمانية وتعضيدهم لكل خارج عليها:” قد علمت إنجلترا أن احتلالها لمصر كان ولا يزال سببًا للعداوة بينها وبين الدول العلية وأن المملكة العثمانية لا تقبل مطلقًا الاتفاق مع إنجلترا على بقائها في مصر، ولذلك رأت إنجلترا أن بقاء السلطنة العثمانية يكون عقبة أبدية في طريقها ومنشأ للمشاكل والعقبات في سبيل امتلاكها مصر، وأن خير وسيلة تضمن لها البقاء في مصر وبقاء يدها على وادي النيل هي هدم السلطنة العثمانية، ونقل الخلافة العثمانية إلى أيدي رجال يكونون تحت وصاية إنجلترا، ويكون آلة في أيديهم ولذلك أخرج الإنجليز مشروع الخلافة العربية مؤملين به استمالة العرب لهم وقيامهم بالعصيان في وجه الدولة العلية، ولذلك أيضا كنت تري الإنجليز ينشرون في جرائدهم أيام الحوادث الأرمينية مشروع تقسيم الدولة العلية ـ حماها الله ـ جاعلين لأنفسهم من الأملاك المحروسة مصر وبلاد العرب أي السلطة العامة على المسلمين ( المسألة الشرقية ص 190).
ويقول أيضا:” إن الذي يبغضه الإنجليز في السلطان العثماني هو ميله الشديد إلى جمع كلمة المسلمين حول راية الخلافة العثمانية ولذلك أهتم الإنجليز بالأفراد القليلين الذين قاموا ضد الخلافة وقدموا لهم المساعدة، ومن هؤلاء الداعون إلى خلافة عربية حيث يريد الإنجليز إقامة خلافة عربية تحت وصايتهم، وفي ذلك كتب المستر بلنت أن مركز الخلافة يجب أن يكون عربيًا وأن الخليفة يجب أن يكون رئيسًا دينيًا فقط لا ملكًا دنيويًا، أي أن الأمور الدنيوية تترك للإنجليز لتقدير أمورها كيف تشاء “، (المسألة الشرقية ص 190).
ويختم مصطفى كامل الفصل الأول في كتابه ( المسألة الشرقية ) بالدعوة إلى الالتفاف حول راية الخلافة العثمانية قائلا :” واجب العثمانيين والمسلمين أمام عداوة إنجلترا للدولة العلية أن يجتمعوا حول راية الخلافة وأن يدافعوا عن ملك بلادهم بكل قواهم ولو تفاني الكبير منهم في هذا الغرض الشريف حتى يعيشوا أبد الدهر سادة لاعبيدًا، وواجب المسلمين أن يلتفوا أجمعين حول راية الخلافة المقدسة، وأن يعززوها بالأموال والأرواح ففي حفظها حفظ كرامتهم وشرفهم وبقاء مجدها رفعتهم ورفعة العقيدة الإسلامية “ المسألة الشرقية ص 230
ويلمح مصطفى كامل إلى التعصب الصليبي في سلوك مستر جلادستون في خطابه له بتاريخ 27 فبراير سنة 1896 قائلاً :” وإلا فهل مسلمو مصر أقل استحقاقا لرعايتك العالية من مسيحي الأرمن ؟ “.
وفي إطار دعوة مصطفى إلى نشر التعليم حرص على تأكيد الطابع الديني للتعليم بالعلوم الإسلامية ومكارم الأخلاق في نفس الوقت مع الاهتمام بالعلوم العصرية والطبيعية، يقول مصطفى كامل :” يجب تأسيس المدارس في كل مكان على أساس من الدين القويم والتربية السليمة “ ( المؤيد عدد 31 يوليو سنة 18950).
يقول الرافعي :” إن مصطفى كامل أتجه إلى تقوية الروابط بين الشعوب الإسلامية فأصدر صحيفة أسبوعية باسم العالم الإسلامي، كان ينشر بها كل ما يهم الإسلام من المقالات والأنباء ( الرافعي ـ مصطفى كامل ص 4310).
ويوحد مصطفى كامل الدين والوطنية في صعيد واحد قائلا :” قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية وأن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء، ولكني أري أن الدين والوطنية توأمان متلازمان “، خطبة مصطفى كامل بالإسكندرية في يونيو سنة 1900م.
ويصف مصطفى كامل الحضارة الأوروبية بأنها حضارة ظالمة قائلا :” من سوء حظ الجنس البشري أن المدنية الحاضرة أعلنت الرق في الشعوب وسمحت بمخالفة الذمة والشرف في المعاملات الدولية “ خطبة مصطفى كامل في القاهرة في 18 ديسمبر سنة 1899م.
ويلخص مصطفى كامل أحوال العلم الإسلامي في زمانه قائلا :” إن هناك أسبابا واحدة لتأخر المسلمين وأن نهضتهم تكون بوسائل واحدة، وأن الإسلام ليس عقيدة دينية فقط، بل هو قانون اجتماعي أيضًا، وأن ميل المسلم لأبناء دينه أمر طبيعي وشرعي “ من مقال مصطفى كامل في صحيفة الطان الفرنسية عدد8 ديسمبر سنة 1901
التناقضات الجوهرية والتناقضات الثانوية
لا شك أن قضية التناقضات الجوهرية والتناقضات الثانوية من القضايا الهامة التي مازلت تشغل جزء كبير من الاهتمام الإسلامي والثوري عمومًا، ولا شك أن الظروف الدولية التي ظهر في ظلها مصطفي كامل تمثل نموذجًا هامًا في هذا الإطار.
وبداية فإن مصطفي كامل - مثل غيره من الزعماء الإسلاميين- كان يدرك أن هناك تناقضًا جوهريًا بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية، وأن المعسكرين المتميزين هما معسكر الشعوب الإسلامية من ناحية ومعسكر الغرب الاستعماري الصليبي وحلفاؤه من الحكومات العميلة من ناحية أخري، وان التاريخ القديم والحديث يؤكد على حقيقة هذا التناقض الجوهري، ولكن هناك أيضًا تناقضات ثانوية بين قوي المعسكر الاستعماري ذاته وإنه لا مانع من الاستفادة بها بشرط أن نتأكد دائمًا إنها مجرد تناقضات ثانوية وأنه لن يحسم المعركة مع الاستعمار إلا كفاح الشعوب، كان هناك تناقضات ثانوية بين إنجلترا وفرنسا في إطار التسابق الاستعماري، ولكن هذا التناقض الثانوي ما لبث أن تلاشي عند ظهور الثورة الإسلامية العرابية، بل وقامت فرنسا بمساعدة إنجلترا على احتلال مصر مضحية بمصالحها في مصر لأن هذا أفضل من ظهور ثورة إسلامية قوية في مصر تكون خطرًا على المشروع الاستعماري بكاملة، أو خطرًا على المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا، وقد عبر عن ذلك وزير خارجية فرنسا في ذلك الوقت في تهنئة للسفير الإنجليزي في باريس بمناسبة احتلال الإنجليز مصر ونجاحهم في القضاء على الثورة العرابية.
على أي حال حاول مصطفي كامل أن يستفيد من التناقض الثانوي بين إنجلترا وفرنسا في الدعوة للقضية الوطنية، ولكن مع تصاعد الحركة الوطنية في مصر وقوتها تلاشت تلك التناقضات الثانوية، ووقع الإنجليز والفرنسيين الاتفاق الودي سنة 1904م الذي يقضي بإطلاق يد إنجلترا في مصر مقابل إطلاق يد فرنسا في الجزائر والمغرب، أي أن فرنسا شجعت الحركة الوطنية في مصر لتحسين ظروف التفاوض مع إنجلترا في إطار التسابق الاستعماري لا أكثر ولا أقل.
وفي نفس إطار التناقضات الثانوية، شجع الخديوي عباس حلمي الثاني الحركة الوطنية و مصطفي كامل، وحاول مصطفي كامل الاستفادة من الخديوي،ولكن مع تصاعد الحركة الوطنية في مصر، خاف الخديوي عباس حلمي الثاني من خطرها على عرشه فأدار لها ظهره وأظهر الود للإنجليز، أي أن الخديوي عباس حلمي الثاني أيضًا أراد من دعم الحركة مجرد تحسين أوضاعه أمام الإنجليز لا أكثر ولا أقل والمحافظة على أكبر قدر ممكن من السلطة في مصر من السيطرة الإنجليزية.
وعلى أية حال فخبرة هذه التجربة تؤكد أنه لا فائدة كبيرة من الاعتماد على تلك التناقضات الثانوية، ولكنها أيضًا لا تمنع من الاستفادة بها بشرط إدراك أنها مجرد تناقضات ثانوية لا تلبث أن تزول مع تصاعد قوة الحركة الوطنية، وأن الطريق الوحيد لحسم المعارك الوطنية هو الاعتماد على سواعد الجماهير.
ولا شك أن مصطفي كامل كان يدرك ذلك كله ويعمل في إطاره، لأن الحركة الوطنية المصرية استمرت وتصاعدت بعد الاتفاق بين الإنجليز والفرنسيين، وبعد أن أدار الخديوي عباس حلمي الثاني ظهره لها، ولو كانت تعتمد على الفرنسيين أو الخديوي أساسًا لانهارت بمجرد تخلي هذه أو ذاك.
وقد عبر مصطفي كامل عن وعيه بهذه المسألة قائلاً :” إن المعتمد على أوروبا واقف على هاوية عميقة القرار “ ( اللواء عدد 28 أغسطس سنة 1900 ) .