الإمام أبو داود
نسبه وموطنه:
هو الإمام الثبت، أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني، أحد حفاظ الحديث وعلمه وعلله، صاحب السنن.
والسجستاني: بكسر السين المهملة والجيم وسكون السين الثانية وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى سجستان، الإقليم المشهور إلى جنوبي خراسان، والمزاحم للهند.
وفي ذلك الإقليم وفي سنة اثنتين ومائتين من الهجرة كانت ولادة أبي داود، وهو والد أبي بكر عبد الله بن أبي داود، من أكابر الحفاظ ببغداد، وكان عالماً متفقاً عليه، إمام ابن إمام، وله كتاب "المصابيح".
تربيته وأخلاقه:
نشأ أبو داود رحمه الله محبا للعلم شغوفا به، وكان همه منذ نعومة أظافره طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدوينه، وقد بدت عليه أمارات النجابة منذ صباه، حتى إنه وهو في أيام حداثته وطلب الحديث جلس في مجلس بعض الرواة يكتب، فدنا رجل إلى محبرته وقال له: أستمد من هذه المحبرة، فالتفت إليه وقال: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فسمي ذلك اليوم حكيماً.
ولشغفه الكبير بالعلم وحبه له فقد كان له كم واسع وكم ضيق، فقيل له: يرحمك الله ما هذا؟! فقال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه.
ولكونه من من تلامذة الإمام البخاري فقد كان له تأثير خاص فيه؛ إذ أنه أفاد منه أيما إفادة، وقد سلك في العلم سبيله، وفوق ذلك فكان يشبه الإمام أحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، حتى قال بعض الأئمة: كان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان احمد يشبه في ذلك بوكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور، ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود، وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وآله في هديه ودله.
وقد قال عنه ابن خلكان: كان في الدرجة العالية من النسك والصلاح.
شيوخــــــــــــــــــه:
كغيره من علماء عصره وكسنة متبعة وبالأخص بين علماء الحديث، فقد طوف أبو داود البلاد، وارتحل إلى أمصار الحضارة الإسلامية في طلب الحديث ومشافهة الشيوخ والتلقي عليهم، ولقي خلال هذه الرحلات عددًا كبيرًا من كبار الحفاظ والمحدثين، فكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين، وسمع أبا عمر الضرير، ومسلم بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن مسلمة القعنبى، وعبد الله بن رجاء، وأبا الوليد الطيالسي، وأحمد بن يونس، وأبا جعفر النفيلى، وأبا توبة الحلبي، وسليمان بن حرب، وخلقا كثيرا بالحجاز والشام ومصر والعراق والجزيرة والثغر وخراسان.
تلاميــــــــــــــــــــذه:
حين وهب أبو داود حياته لعلم الحديث كان له تلاميذ كثيرون، يتعلمون منه ويروون عنه، وكان أشهر من روى عنه وتتلمذ على يده الإمام الترمذي، والإمام النسائي، وابنه الإمام أبي بكر بن أبى داود، وأبو عوانة، وأبو بشر الدولابى، وعلى بن الحسن بن العبد، وأبو أسامة محمد بن عبد الملك، وأبو سعيد بن الأعرابي، وأبو علي اللؤلؤي، وأبو بكر بن داسه، وأبو سالم محمد بن سعيد الجلودى، وأبو عمرو أحمد بن على، وغيرهم.
وقد كتب عنه شيخه الإمام أحمد بن حنبل حديث العتيرة، وهو الحديث الذي رواه عن عن أبي العشر الدارمي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة فحسنها.
قال بن أبي داود قال أبي: فذكرته لأحمد بن حنبل فاستحسنه وقال: هذا حديث غريب وقال لي: اقعد فدخل فأخرج محبرة وقلماً وورقة وقال: أمله علي فكتبه عني، قال: ثم شهدته يوماً آخر وجاءه أبو جعفر بن أبي سمينة فقال له أحمد بن حنبل: يا أبا جعفر، عند أبي داود حديث غريب اكتبه عنه، فسألني فأمليته عليه.
وفي أمر العتيرة فقد قال أَبو عبيد: العَتِيرة هي الرَّجَبِيَّة، وهي ذبيحة كانت تُذْبَح في رجب يتَقَرَّب بها أَهلُ الجاهلية ثم جاء الإِسلام فكان على ذلك حتى نُسخَ بعد، قال: والدليل على ذلك حديث مخنف بن سُلَيم قال: سمعت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنّ على كل مسلم في كل عام أَضْحاةً وعَتِيرَةً، قال أَبو عبيد: الحديث الأَول أَصح، قال الخطابي: العَتيرةُ في الحديث شاة تُذْبَح في رجب، وهذا هو الذي يُشْبِه معنى الحديث ويَلِيق بحكم الدِّين، وأَما العَتِيرة التي كانت تَعْتِرُها الجاهلية فهي الذبيحة التي كانت تُذْبَح للأَصنام ويُصَبُّ دَمُها على رأْسها.
مؤلفاتـــــــــــه:
كان أبو داود رحمه الله من المكثرين في التأليف وبالذات في فنون علم الحديث رواية ودراية، فمن مؤلفاته: دلائل النبوة، وكتاب التفرد في السنن، وكتاب المراسيل، وكتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد، وله أيضا ناسخ القرآن ومنسوخه، وذكر الزركلي في الأعلام أن له كتاب الزهد، وقد رمز له بحرف (خ) دليل على أنه مخطوط، وذكر أنه في خزانة القرويين برقم (80 / 133) وبخط أندلسي، وذكر أيضا أن له البعث، وقال أنه رسالة، ورمز له كذلك بما يشير أنه مخطوط، وأيضا تسمية الأخوة، وقال إنها رسالة، ورمز لها كذلك بما يشير أنها مخطوط.
سنن أبي داود.. مكانته ومنهجه فيه:
بالإضافة إلى التواليف السابقة فإن الذي طير اسم أبي داود وزاده شهرة هو كتابه العظيم المعروف بسنن أبي داود، وهو كتاب يأتي في المرتبة بعد صحيح البخاري وصحيح مسلم في الشهرة والمكانة، وقد عُدّ أول كتب السنن المعروفة، وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقد بلغت أحاديث هذا الكتاب ثمانمائة وأربعة آلاف حديث، صنفه وانتقاه من أصل خمسمائة ألف (500,000) حديث؛ ولذا فيُعد الكتاب من مظان الحديث الحسن.
وقد رتب أبو داود كتابه على كتب وأبواب، فشمل خمسة وثلاثين كتابًا، وواحدا وسبعين وثمانمائة وألف (1871) باب.
وفي "السنن" لم يقتصر أبو داود على الصحيح، بل خَرَّج فيه الصحيح، والحسن، والضعيف، وقد وضح منهجه فيه فقال: ذكرت في كتابي الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، قال: وما كان فيه وهن شديد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض.
وقد اختلفت الآراء في قول أبي داود: "وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح" هل يستفاد منه أن ما سكت عليه في كتابه هل هو صحيح أم حسن؟ وقد اختار ابن الصلاح والنووي وغيرهما أن يحكم عليه بأنه حسن ما لم ينص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن.
وقد تأمل العلماء سنن أبي داود فوجدوا أن الأحاديث التي سكت عنها متنوعة، فمنها الصحيح المخرج في الصحيحين، ومنها صحيح لم يخرجاه، ومنها الحسن، ومنها أحاديث ضعيفة أيضًا لكنها صالحة للاعتبار ليست شديدة الضعف، فتبين بذلك أن مراد أبي داود من قوله "صالح" المعنى الأعم الذي يشمل الصحيح والحسن، ويشمل ما يعتبر به ويتقوى لكونه يسير الضعف. وهذا النوع يعمل به لدى كثير من العلماء، مثل أبي داود وأحمد والنسائي، وإنه عندهم أقوى من رأي الرجال.
وإذا نظرنا في كتابه وجدناه يعقب على بعض الأحاديث ويبين حالها، وكلامه هذا يعتبر النواة الصالحة التي تفرع عنها علم الجرح والتعديل فيما بعد، وأصبح بابا واسعا في أبواب مصطلح الحديث.
وقد جمع أبو داود كتابه هذا قديماً، وحين فرغ منه عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه فاستجاده واستحسنه، والفقهاء لا يتحاشون من إطلاق لفظ (الصحاح) عليها وعلى (سنن الترمذي)، لا سيما (سنن أبي داود).
وفي مكانة هذا الكتاب فقد أبلغ زكريا الساجي حين قال: "كتاب الله أصل الإسلام، وسنن أبى داود عهد الإسلام".
وقد أقبل العلماء على كتاب سنن أبي داود بالشرح والتعليق والدراسة، فمن هذه الشروح ما يلي:
- "معالم السنن": لأبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، المتوفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، أوله: (الحمد لله الذي هدانا لدينه وأكرمنا بسنة نبيه... الخ)، وقد لخصه الحافظ شهاب الدين أبو محمود، أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي، المتوفى سنة خمس وستين وسبعمائة، وسماه: (عجالة العالم من كتاب المعالم).
- "مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود": للحافظ جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة إحدى عشر وتسعمائة من الهجرة.
- "فتح الودود على سنن أبي داود": لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندى، المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف من الهجرة.
- "إنحاء السنن واقتفاء السنن في شرح سنن أبي داود": لأحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال المقدسي الخواص، المتوفي سنة خمس وستين وسبعمائة من الهجرة.
- "عون المعبود في شرح سنن أبي داود": لمحمد شمس الحق عظيم آبادى.
وقد اختصرها زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي الحافظ المنذري، المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة، وسماه: (المجتبى)، وألف السيوطي عليه كتابا سماه: (زهر الربى على المجتبى)، وله عليها حاشية أيضا.
وهذبه أيضا محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي، المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
ثناء العلماء عليه:
حاز أبو داود على إعجاب معاصريه وثقتهم، وقد عدّه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وقال عنه إبراهيم الحربي لما صنف كتاب "السنن": "أُلِين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد"، وكذلك قال محمد بن إسحاق الصاغانى.
وقريب من ذلك أيضا عبر الحافظ موسى بن هارون فقال: "خلق أبو داود في الدنيا للحديث وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه".
وأبلغ منه ما ذكره الحاكم أبو عبد الله يوم أن قال: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة".
وجمع فأوعى أبو بكر الخلال حين قال: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد في زمانه، رجل ورع مقدم.. وكان إبراهيم الأصبهاني وأبوه بكر صدقة يرفعون من قدره ويذكرونه بما لا يذكرون أحداً في زمانه مثله".
وليس أدل على ذلك كله من صنيع سهل بن عبد الله التستري حين جاءه فقيل له: يا أبا داود، هذا سهل بن عبد الله قد جاءك زائراً، قال: فرحب به وأجلسه، فقال سهل: يا أبا داود، لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: حتى تقول قضيتها مع الإمكان، قال: قد قضيتها مع الإمكان، قال: أخرج لي لسانك الذي حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبله، قال: فأخرج له لسانه فقبله.
وحقا قالوا وصدقوا، فقد أخبر عنه أحمد بن محمد بن ياسين الهروي فقال: سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وعلله وسنده في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، من فرسان الحديث.
بعض أقواله:
كان لمعايشة أبي داود لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تضمنته من أقوال وأفعال بالغ الأثر في تكوين شخصيته الحكيمة رحمه الله، وكان من أبرز ما عبر عن ذلك قوله: "كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني "السنن" - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث.
ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، والثاني: قوله: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والثالث: قوله: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه"، والرابع: قوله: "الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات" الحديث بكماله".
وقد روى عنه ابنه ابن أبى داود فقال: سمعت أبى يقول: "خير الكلام مادخل الأذن بغير إذن".
ورحمه الله يوم أن تسربل بسربال الحكماء فقال: "الشهوة الخفية حب الرياسة".
وفاة أبي داود:
بعد فتنة الزنج في البصرة التمس منه أخو الخليفة أن يقيم بها لتعمر من العلم بسببه، وقد أجاب طلبه وظل بها حتى وافته المنية، ورحل عن دار الدنيا يوم الجمعة، سادس عشر من شوال، سنة خمس وسبعين ومائتين، وصلى عليه عباس بن عبد الواحد الهاشمي، رحمه الله تعالى.