سكان المقابر في مصر ....عالم خارج نطاق الحياة
سعاد مصرية (35 عامًا) ولدت وترعرت في مقبرة باب النصر في القاهرة. "أ.ف.ب" أجرت إيلاف تحقيقًا حول سكان المقابر في القاهرة الذين يقدر عددهم بمليوني نسمة، مظهرة مآسيهم وأوجاعهم وهمومهم وحتى أحلامهم التي لم تتخطَّ أربعة جدران خارج المدافن.
القاهرة: عالم خارج نطاق الحياة، أطفال وشباب وكبار يعيشون كالأموات، لا يختلفون عنهم إلا بقلوبهم التي لا تزال تنبض، لم تسعهم الأحياء الراقية والشعبية او حتى العشوائية التي أصبحت كالسرطان فى العاصمة المصرية، فزحفوا نحو الأموات، استكثروا عليهم المساحات الخالية التي تحيط بقبورهم، زاحموهم واستقروا بجوارهم واقلقوا منامهم، وان كان الأموات في راحة عنهم.
انهم سكان المقابر في القاهرة الذين تقدر إحصاءات غير رسمية عددهم بحوالى 2 مليون نسمة.
توجهت إليهم "إيلاف" في مكانهم، اقتربت منهم، حاورتهم، استمعت لمآسيهم وأوجاعهم وهمومهم وحتى أحلامهم التي وجدناها لا تتجاوز أربعة جدران خارج المدافن، او جيران غير الموتى، او قسط قليل من التعليم او وظيفة في ادني درجات السلم الاجتماعي، او حتى مجرد طبخة تحتوي على قطعة من اللحم ولو مرة كل شهر.
زوج عزيزة مدفون في الحجرة ذاتها التي تعيش فيها منذ اكثر من ستين عامًا
حسب اصحابها
في مدافن الإمام الشافعي تجد المقابر متراصة على جانبي الشوارع والطرق، من اسم المرحوم المكتوب على المقبرة وشكلها وطبيعة بنائها، لا يبدو صعبا معرفة درجة ثراء صاحبها او نفوذه او مكانته فى الدنيا. فهناك مقابر كما يحلو البعض تسميتها "خمس نجوم"، تتجاوز مساحتها الـ 200 متر وأكثر. يصعب عليك التصديق أنها مقبرة، إذا لم ترى اليافطة المكتوب عليها اسم المرحوم. تنفرد هذه المقابر بشكل معماري مميز ومكسوه بالرخام، بشكل يعكس ثراء صاحبها، وتضم الى جانب الغرف المخصصة للدفن، أماكن أخرى للاستراحة وحمام ومطبخ وغالبا ما تكون مجهزة بقطع الأثاث الفاخر وأدوات للطبخ، بما يضمن زيارة مريحة لأصحاب المدفن لذويهم. وهذه المقابر أمواتها أفضل حظا نظرا لعدم وجود احد يعيش فيها.
وعلى الجانب الأخر توجد مقابر "الغلابة"، قد تكون بمساحة المقابر السابقة، لكنها على النقيض مختلفة عنها في الشكل والمضمون، شكلها عادي وغالبا يقتصر على الطوب دون أي دهانات، وداخلها غرف متراصة مبنية بأقل مواد البناء وأحيانا بالخوص والخشب، تعيش فيها اسر وعائلات لا دخل لهم ولا مأوى، حياة تشبه تقريبًا حياة الأموات الذين يرقدون بجوارهم، ويطلق عليها أسم "الحوش".
تشير التقديرات إلى أن مليوني شخص يعيشون في المقابر انتماء للنشأة
كان جالسًا على كرسي على ناصية احد الشوارع، ملابسه الأنيقة توحي بأنه ليس من سكان المقابر، اقتربت منه إيلاف وعرفنا بنفسه، ووافق على الحديث الينا بعد ان اخذ وعدًا بعدم ذكر اسمه، نظرا لحساسية وضعه كونه يعمل بمهنة مرموقة. قال انه ولد هنا في هذا المكان منذ 37 سنة، عمره كله. وعلى الرغم من ان وظيفته تدر عليه دخلاً كبيرًا يمكنه من إيجار شقة في احد الاحياء الراقية فى القاهرة، الا انه يتمسك بالمعيشة هنا. سألته عن السبب فقال "انا ولدت وتربيت هنا، ولذلك عندي انتماء للمكان، الإنسان يتمسك بمكان بسبب النشأة، وهناك عوامل اخرى أيضًا غير موجودة فى أماكن أخرى مثل الجيرة والترابط وتعاطف الناس مع بعضها".
قلت له افهم من كلامك ان الحكومة لو عرضت على ساكن المقابر شقق للانتقال إليها سيرفضون مغادرة المقابر بسبب الانتماء، فرد قائلا " لا طبعًا، لن يرفضوا، سيسمع الكلام لكن سيخرج من هنا حزين ومتضايق، أقصى حلمه ان يأخذ شقة ويحتفل بزفاف ابنه فيها".
وأضاف قائلاً: "هناك أناس عاشوا في المقابر لفترات طويلة وأتيحت لهم فرص للمعيشة في شقق وأماكن طبيعية لكنهم لم يتكيفوا وعادوا الى المقابر مرة أخرى. واعرف سيدة عاشت عندنا في الحوش لمدة 70 عاما لها ثلاثة أبناء يتولون مناصب رفيعة في البلد، وفروا لها شقة في حي راق، وبعد إلحاح وضغوط ذهبت للمعيشة فيها لفترة من الوقت لكنها عادت مرة أخرى الى الحوش و أكملت فيه بقية حياتها". بيد أن انتماء هذه السيدة الى المقابر قد يبدو حالة شاذة عن القاعدة العامة، حسبما اتفق كل من استطلعت "إيلاف" رأيهم حول استعدادهم لترك الحياة في المقابر إذا أتيحت لهم الفرصة. حياة المقابر.. معاناة بكل تفاصيلها
خوف وعدم امان
كان خارجا من الحوش الذي يسكن فيه، لم يكن من الصعب معرفة مهنته من ملابسه التي عجت بالألوان المختلفة. سألته عن اسمه قال "محمد زكى، صاحب ورشة دوكو سيارات. اعيش هنا من 20 سنة اضطررت الى السكن هنا بعد ان فشلت في الحصول على شقة، الحكومة دائمًا تضحك علينا، اجري للحصول على شقة منذ 15 عامًا وقدمت اوراقي مرات كثيرة ولم يسأل احد عنا".
توقفنا أمام مدفن قد لا يبدو شكله مختلفا عن المنازل البسيطة المنتشرة في الريف، السقف شبه عالٍ، ومزود ببوابة حديدية. كانت "أمينة" زوجة زكي تفترش الأرض أمام المدفن هي وأبنائها الثلاثة يتناولون وجبة الغذاء، يتجمعون حول طبق فول واحد وكيس من المخلل وبعض أرغفة الخبز من ذوات الخمس قروش. قالت أمينه "أعيش في هذا الحوش منذ 20 عامًا، كان صاحبه على علاقة وطيدة بوالدي، وقام بتأجيره لنا نظير مبلغ من المال، و لا ندفع إيجار الآن لعدم توفر المال، زوجي عنده ورشة دوكو، يعمل يوم وعشرة لا، وهذا طبيعي، من الذي سيأتي الى هنا في المقابر لدهان سيارته إلا اذا كان من معارفنا". لا فرق بيان الحياة والموت في مقابر مصر
وبالرغم من ان الحوش الذي تسكنه مميزا نوعا ما ربما يكون مصدرا لحسد جيرانها، بحيث يتكوّن من صالة وحمام ومطبخ وغرفة، إلا ان أمينة تتمنى اليوم الذي تترك فيه هذا المكان الى شقة حتى لو كانت مكونة من غرفة واحدة لفقدان الأمان هنا. قالت "نحن نضطر الى النوم من المغرب بسبب البلطجية والحشاشين والصايعين، لا نشعر بالأمان هنا، نخاف على أطفالنا".
وأردفت قائلة "لا تصدق أن الحياة هنا مريحة، فالبنت بعد المغرب لا تستطيع الخروج من الحوش، انا زوجت ابنتي عندما بلغت ال16 سنة قبل ما نيلها شهادتها خوفًا عليها من المحششين والذين يتعاطون المخدرات، خصوصًا وأنه في احد المرات ضربوني برخامة فبقيت 3 أشهر في المستشفى للمعالجة، وعندما نبلغ الشرطة لا احد يسأل عنا". وأخذتنا أمينة الى مكان خلف المدفن تتناثر فيه حقن عليها اثار دماء، وسجائر محشوه بالحشيش والبانجو، وشرائط برشام.
عائلات بأكملها تعيش في أماكن ضيقة
6 افراد فى غرفة
على بعد امتار قليلة تقدمنا زكي الى حوش أخر هالنا منظر شواهد القبور التي تملأ جنبات الحوش منها ما كتب عليه توفي صاحبه عام 1942، وآخر كتب عليه توفي صاحبه في 1997، والغرف المبنية بالمواد البدائية المنتشرة هنا وهناك. طرق باب احدى الغرف وعرفنا قائلاً "هذه زوجتي الثانية غادة عبد المنعم واولادي الأربعة ياسمين 15 سنة ثانية اعدادي ويسرى 16 سنة ثالثة اعدادي ودينا في سنة ثالثة ونعمات فى سنة رابعة"، ولو قدر الله سبحانه وتعالى لثلاثة أطفال آخرين ان يبقوا احياء لوصل العدد الذي يعيش في هذه الغرفة الى 9 افراد.
تبدو الغرفة منقسمة الى قسمين بستارة قماش، قسم يوجد فيه خزانة الملابس وسرير ينام عليه الأب والأم، والقسم الأخر يوجد فيه كنبه انتريه متهالكة ينام عليها الابن الأكبر، وكرسيين، وشانون يوجد فوقه تليفزيون ابيض واسود ماركة قديمة. اما البنات الثلاثة فينمن فى سندرة على فرشة بطانية". وبجوار الغرفة توجد دورة مياة فيها غسالة عادية كانت السبب فى وفاة احد الأبناء و بوتاجاز، وطرقة من دون سقف يوجد فيها موقد الطبخ. إم وإبنتها وتأملات في ظروف العيش الصعبة
قطعت غادة جدار الصمت وقالت "انا اطبخ هنا في هذا المكان، لكن التراب ينزل في طعام ل عدم وجود سقف" ثم أشارت بيدها الى الغسالة قائلة بإحساس تغلفه المرارة" هذه الغسالة قتلت ابني عبد الرحمن صعقه التيار الكهربائي ومات، كان عمره عامين، ودفن في هذا المكان" مشيرة الى المدفن الذي دفن فيه. وصمتت قليلاً وقالت الام المكلومة" على فكره توفى قبله اثنين، إسلام مات عمره سنتين في المستشفى، وهدى بعد أسبوع من ولادتها".
أغمضت عينها لبعض الوقت ثم تابعت بقلب حزين على حالها "لا يوجد شيء في هذا المكان لا نعاني منه اليوم يبدأ عندنا بمآسي وينتهي بمآسي، انا كنت أعمل لأساعد زوجي لكنني تعبت، رزق زوجي على باب الله، وأتمنى أن يتعلم أولادي، ويسري ينال شهادة الإعدادية وليصبح مندوب شرطة".
التلفاز القديم احد أدوات الترفيه التي قد ينجح البعض في توفيرها
تعليم بعيد منال
قاطعها زكي وقال " أن المستوى الذي نعيشه لا يؤهل ان يتعلم ابنائي فى المدرسة". " التعليم يحتاج الى مصاريف ونفقات، لا نقدر عليها، أنا بحاجة للجنية الذي يعمل به ابني أكثر من تعليمه". التقط يسري أطراف الحديث " أنا لا أخد دروس خصوصية والمدرسين يطردونني لا يريدونني أن أذهب إلى المدرسة، , يعطونني المقشة ويطلبون مني أن اكنس وانظف الفصول حتى يجعلوني أكره المدرسة".
وتابعت ندى قائلة " انا من اول السنة لم اذهب الى المدرسة " وسألتها عما تود ان تكون في المستقبل "فقالت انها تريد ان تكون ممرضة حتى تستطيع الحصول على وظيفة بسرعة.
دخلت ياسمين وبيدها كيس معكرونة فئة كيلو واحد وأعطته لوالدتها وقالت "هذا اليوم استثنائي سنأكل فيه معكرونة، بدلا من الروتين اليومي العدس والفول "وأكمل يسري ضاحكا" لم نرَ اللحمة منذ عيد الأضحى، وسأل الأب" كم سعرها الآن؟ وتباينت ردودهم حول سعرها بشكل يبرز عدم شرائها منذ فترة طويلة.
مرحاض سكان المقابر
في حاجة إلى كل شيء
ومن جانبها قالت ياسمين أنها أيضا لم تذهب الى المدرسة منذ أول السنة، ونظرت الى والدها كما لو أنها تلومه عن تقصيره في حقها. وسألتها عما اذا كانت تتمنى اي شيء ردت بحسرة قائلة "اتمنى كل شيء نحن في حاجة لكل شيء"، ليبدو ان أحلام سكان المقابر في واقع الأمر لا تقتصر على مجرد حصولهم على بيت وجيران وشارع ينتمون إليه.
وخلال التقاطي بعض الصور فى الحوش بادرتني امرأة بقولها: "أنت صحافي؟ قلت : نعم فقالت "أرجوك لا تصورنا، فأنتم تقولون عنا البؤساء".