ليتني كنت أعلم
جلست أنفال في عيادة الطبيب، تنتظر نتيجة الفحص، وكانت تستعجل الوقت لأنها مدعوة الى حفلة!! لم تكن تفكر في طبيعة النتيجة بقدر ما كانت تخشى من تسرب الوقت وفوات موعد الحلاقة، فهي لم تكن تجد في التحليل الذي تنتظر نتائجه سوى إجراء احتياطي جاء نتيجة رغبة الأهل واهتمامهم بأمرها، وإلا فهي لا تحس بأي عارض مخيف، ولا تشعر من المرض ما يريب، عدا بعض الآلام الطفيفة في المفاصل، وأخيراً استدعيت إلى غرفة الطبيب، فدخلت عليه وهي مستعجلة إنهاء الأمر، والإسراع في الخروج، وفوجئت عندما دخلت بسحابة من كآبه ترين على وجه الطبيب، الشيء الذي دعاها أن تقول عندما سألها:
هل أنت صاحبة التحليل؟
فقالت:
كلا أنها ابنتي.
فقد أرادت أن تعرف الحقيقة، ولعله سوف يتحفظ معها لو عرف أنها صاحبة التحليل، ووقفت أمامه تنتظر، فأشار إلى كرسي هناك، وطلب منها أن تجلس فجلست، وقد بدأ الوجل يتسرب إلى نفسها، وتطلعت إليه في لهفة، ولكن ليس من أجل الخروج في هذه المرة بل من أجل فهم الحقيقة.
قال:
لماذا لم ترسلوا رجلاً بدلاً عنك لأخذ النتيجة يا آنسة؟
قالت:
لأنني كنت مارة من هنا ولهذا لم نجد ما يستدعي إرسال سواي ثم إنني أتمكن أن أسمع الحقيقة مهما كانت.
فسكت الطبيب وهو ينظر إليها في جد مشوب بالأسف ثم قال:
إن هذا يؤكد أنك فتاة مثقفة فاهمة لطبيعة الحياة،
قال هذا ثم سكت، فسرت في جسمها رعدة من الخوف وتساءلت:
كيف ؟ وماذا تعني يا دكتور ؟
قال:
إن نتائج التحليل تشير الى وجود مرض في الدم.
قال هذا ثم سكت وأطرق في أسى، فلم تجد أنفال حاجة لأن تستزيده أو تستوضحه أكثر، فرددت في فزعه قائله:
سرطان!!
ولم يرفع الطبيب رأسه وبقي ساكتاً في ألم من أجل هذه الأخت المصابة، وكان هذاالسكوت بمثابة حكم بالإعدام عليها فغمغمت تقول في شبه حشرجة:
آه لقد انتهيت إذن.....
وهنا عرف الطبيب أنها كانت تكذب عليه.. نعم عرف ذلك ولكن بعد فوات الأوان فرفع إليها وجهه ونظر نحوها نظرة حنو وقال:
إنني آسف، لماذا كذبت علي يا بنتاه ؟ ولكن وعلى كل حل فإن الموت والحياة بيد الله وكم من مريض عاش وصحيح مات.
وكانت أنفال تشعر أن روحها أخذت تغور إلى الأعماق وأن يدا فولاذية امتدت لتشد على قلبها فتعصره في قساوه ولكنها استجمعت فلول قوتها وهي تقول:
أرجو المعذرة يا دكتور وشكراً.
فرد عليها الطبيب مشجعاً:
كوني قوية ومتفائلة، فإن الطب لا يزال في تقدم ولعل المرض الذي لا يوجد دواء له اليوم سوف يوجد دواءه غداً ولهذا فإن الأمل لا يزال موجوداً وسوف أبحث عن أحدث الأفكار الطبية لعلي أجد الدواء المطلوب ولهذا فأنا أرجو أن تتركي لي رقم تليفونك يا بنتاه.
وبطريقة روتينية ذكرت له رقم للهاتف فهي لم تكن تعي ما تقول أو ما يقول فقد كانت تعيش آثار الصدمة في عنف ومرارة ثم أعادت عليه كلمه الشكر وخرجت.
وفي البيت.. كتمت الحقيقة فلم تكن تعرف أو تقوى أن تتحدث عنها ثم إنها وجدتهم في شغل عن ذلك بالاستعداد للذهاب الى الحفلة.. وسألتها أمها قائلة:
ألم تمري على الدكتور يا أنفال ؟
ثم لماذا لم تذهبي الى الحلاقة ؟
كان السؤال عابراً غير منتظر الجواب ولهذا فقد ردت عليها باقتضاب قائله:
لأنني سوف لن أذهب الى الحفلة، قالت هذا وصعدت الى غرفتها وأغلقت الباب من الداخل ثم استقلت على السرير وهي بكامل ملابسها وأصوات أهلها تصلها وكأنها تأتي من وراء بعد ساحق وكان صوت الريح يطرق أذنها فتجد فيه عزفا جنائزياً حزينا وكأنه العويل الذي ينعى إليها شبابها وحياتها الفتية...
حتى غرفتها الحبيبة إليها أصبحت تجد أنها غريبة فيها ما دامت راحلة عنها بعد قليل والبيت ؟ إنها أصبحت ضيفة في هذا البيت سوف تتركه مجبرة لكي يحل آخرون مكانها فيه يذكرونها فترة ثم ينسونها بعد حين، وحاولت أن تبكي فلم تسعفها الدموع فهي تريد أن تفكر ولا تريد أن تبكي وتلفتت حولها في ألم.. وجدت الستائر التي بذلت الكثير من الجهد حتى حصلت عليها والتي فتشت عن أحلى وأحدث تصميم لخياطتها، هذه الستائر سوف تبقى لتذهب هي إلى غير رجعة فماذا يهمها الآن لو كانت من خام أو كتان ؟ إنها ذاهبة عنها ومخلفتها لسواها ، ليتها ما بذلت الجهود من أجلها ، ليتها وفرت ذلك الوقت والمال لشيء يفيدها في محنتها هذه ، وهنا بدأت تفتش في ذاكرتها عن شيء لعلة يفيدها ماذا ؟ أن لديها كل شيء الشباب ، والجمال ، والثقافة ، والمال ، والأثاث والرياش . ولكن هل يفيدها شيء من ذلك أو يدفع عنها خطر الموت ؟ إنها كانت تتمنى لو تصبح موظفة تتقاضى راتباً ولكن هل سوف يستنقذها راتبها من الموت ؟ وهنا خطرت لها فكرة سارعت الى التليفون وكان البيت قد أصبح خالياً إلا منها فقد ذهب الجميع الى الاحتفال فاتصلت بطبيبها وتساءلت في لهفة قائلة:
لو ذهبت الى الخارج هل سوف أجد علاجاً شافياً هناك ؟
قال:
ليس هناك من جديد إنها أتعاب وخسارة بدون فائدة..
فأغلقت سماعة الهاتف وجلست على المقعد بجوار الهاتف متهالكة.. حتى راتبها لا يغير من الواقع شيئاً، ثم نهضت تتجول في أرجاء البيت وكأنها تريد أن تودع هذه المعالم الحبيبة إليها وألقت نظرة على الحديقة الحبيبة وقالت ليتها تعلم أنني راحلة.. ليت هذه الأشجار تعلم أنني راحلة، آه ليت كل ما حولي يعلم بأنني راحلة ثم ((ليتني كنت أعلم)) بأنني راحلة إذن لما عشت الحرص على الدنيا ولما استشعرت الفخر والغرور، نعم ليتني كنت أعلم بأنني ضيفة في هذه الدنيا إذن لما خدعتني بخداعها ولما غرتني بزخرفتها، وهنا تهاوت أنفال على مقعد الى جوارها وكأنها توصلت الى الحقيقة كانت تجهلها وقالت:
ماذا آخذ معي ؟ وهل آخذ معي شيئاً سوى الأكفان والأعمال ؟ ولكن ما هي الأعمال التي سوف تصحبني خلال هذه الرحلة البعيدة ؟ لا شيء ! نعم لا شيء !!
وسرح بها التفكر بعيداً إلى نصائح صديقتها اسراء عندما كانت تحبب إليها طاعة الله قائلة:
(( فتزودوا إن خير الزاد التقوى )) إنها حالروايات.ن تشعر بأهمية الزاد، في حاجة الى عمل صالح تقدمه بين يديها أمام الله، بماذا تجيب يوم الحساب ؟ كيف سوف تطلب الرحمة من ربها وقد عصته في أبسط الأشياء ؟ كيف سوف تأمل العفو من خالقها وهي لم تستجب لأمره خلال مسيرتها في الحياة ؟ ليتها كانت قد قرأت القرآن بدل الساقط من الروايات. ليتها كانت قد تعرفت على دينها عن طريق الكتب بدلاً عن طريق التعرف على مسارح هوليود عن طريق المجلات. .. واستمرت أنفال تقول ليتني ليتني ما أسخطت فلانه ولا اعتديت على فلانة ، ليتني ما كذبت على أحد وما اغتبت أحداً ، ليتني ما إستكبرت على فقير ولا استعليت على مسكين ، ليتني أعيش من جديد لكي أصحح أخطائي وأعمل بما يرضي ربي ، لقد عبرت أهوائي ورغباتي وتجاهلت عبادة ربي ، ليتني أعيش الى فترة عسى أن أكفر عن سيآتي . وخطرت ببالها آية سمعت جدها يقرؤها يومياً :
((حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمةُ هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون))فقالت وكأنها تناجي ربها بذلك .. كلا إنها كلمه عابرة أعني ما أقول يا رب. وهنا وخلال مناجاتها لرب الرحمة إنبجست الدموع من عينيها بحرقة وغزارة وأسندت رأسها إلى يدها وأخذت تبكي . نعم تبكي ولكنه بكاء ندم وليس بكاء ألم ، ورن جرس الهاتف فقامت إليه متثاقلة ورفعت السماعة لتقول : نعم وكان صوتها متهدجاً قد غيرته الدموع فجاءها صوت يقول :
هل الآنسة أنفال موجودة ؟
قالت:أنفال الصوت، إنه صوت الطبيب ! قالت :
نعم إنها أنا يا دكتور،
فاندفع يقول في فرحة صادقة :
نهنيك السلامة يا بنتاه ، انه اشتباه انك صحيحة سالمة والحمد لله ...
وأذهلتها الكلمات فلم تعد تعرف بماذا تجيب ورددت و كأنها في حلم قائلة :
سالمة وكيف ؟ لعلك تهزأ بي يا دكتور ؟
قال:
معاذ الله أن أكون هازئاً ولكنه اعتذار وصلني الآن من المشرف على التحليل يشرح فيه أنه وقع في خطأ إذ سجل اسم مريضه أخرى وها هي نتيجة تحليلك سالمة من كل ما يضر فاحمدي الله على سلامتك يا بنتاه...
فرددت أنفال :
معه كلمات الحمد قائله: الحمد لله، وشكراً لك يا دكتور.
ثم أغلقت سماعة الهاتف وهي تحس بأنها تحيا من جديد وتذكرت ما عاهدت الله عليه وعرفت أنها نجت من موت معلوم الوقت وإن الإنسان ضيف في هذه الدنيا مهما طال به الأمد .. فكان أول عمل قامت به إنها توجهت إلى القبلة لكي تصلي صلاة المغرب والعشاء بعد أن بعد بها العهد عن الصلاة، وحين انتهت من أداء الفريضة عاهدت الله من جديد أن تبقى متمسكة بكل ما أمرها به من صلاة وصيام وحجاب وأن تترك كل ما نهاها عنه، ولأجل أن لا تنسى فقد خطت هذه الآية المباركة وجعلتها على جدار غرفتها:
((حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعني لعلي أعمل صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمهُ هو قائلُها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثون))،
ووضعت في الجهة المقابلة الحكمة التي تقول:
"تب قبل موتك بيوم ولما كنت لا تعلم متى تموت فكن تائباً على الدوام".